أصدرت رابطة الصحفيين السوريين دراسة بحثية شاملة ومعمقة بعنوان “الصحافة الأخلاقية والقوانين الناظمة لها في سوريا” بمناسبة يوم الصحافة العالمي. تأتي هذه الدراسة في توقيت بالغ الدقة والأهمية، حيث يواجه المشهد السياسي وقطاع الإعلام السوري تحديات جمة ومعقدة، في مقدمتها الانتشار المتزايد لخطاب الكراهية والتحريض الطائفي، مما يجعل الصحافة الأخلاقية ضرورة قصوى لتعزيز الثقة المتآكلة في وسائل الإعلام، واستعادة دورها الأساسي في المساءلة والشفافية.
منهجية بحثية رصينة ومتكاملة
اعتمدت الدراسة على منهجية بحثية متعددة الأوجه والمستويات، حيث جمعت بين التحليل القانوني المعمق للتشريعات الإعلامية السورية واستطلاعات ميدانية واسعة النطاق شملت 140 صحفياً وصحفية من مختلف المشارب والانتماءات الجغرافية في سوريا. وإضافة إلى ذلك، تم تنظيم ثلاث منتديات حوارية تفاعلية، استضافت مشاركين من مناطق سورية متنوعة، بهدف إثراء النقاش وجمع رؤى ووجهات نظر متباينة حول قضايا الصحافة الأخلاقية والقوانين المنظمة لها.
أسئلة جوهرية وتحديات متشابكة
سعت الدراسة للإجابة على جملة من التساؤلات المحورية والملحة، في مقدمتها: إلى أي مدى تتوافق القوانين الناظمة للعمل الإعلامي في سوريا مع مبادئ الصحافة الأخلاقية الراسخة؟ وكيف يمكن تعزيز هذا التوافق الضروري لدعم بيئة إعلامية مهنية ومستقلة بحق؟ كما تناولت الدراسة قضايا فرعية ولكنها لا تقل أهمية، مثل مستوى معرفة الصحفيين والمعنيين بالمعايير الأخلاقية، وأنواع الانتهاكات والتجاوزات التي يتعرضون لها، ودور المؤسسات التنظيمية والإشرافية (أو غياب هذا الدور)، والتضارب الصارخ في كثير من الأحيان بين القوانين المحلية والمعايير الدولية ذات الصلة.
أبرز نتائج الدراسة: فجوة عميقة وتحديات هيكلية
كشفت الدراسة عن جملة من النتائج المقلقة والتحديات الهيكلية التي تعترض سبيل الصحافة الأخلاقية في سوريا، في مقدمتها:
• تعدد القوانين وغياب قانون موحد وشامل:
أشارت الدراسة بوضوح إلى غياب قانون إعلامي موحد وشامل ومتسق في سوريا، مما يخلق بيئة قانونية مشوشة وغير متجانسة، ويؤدي إلى تباينات صارخة في تطبيق القوانين وإنفاذها، وغياب العدالة والمساواة في هذا التطبيق.
• ضعف الالتزام بالمعايير الأخلاقية المهنية:
أكدت الدراسة على ضعف الالتزام بالمعايير الأخلاقية الأساسية في العمل الصحفي في سوريا، حيث ينتشر التضليل الإعلامي الممنهج، والاستخدام السياسي الفج للإعلام كأداة دعائية، والانحياز الواضح في التغطية، مما يقوض مصداقية وسائل الإعلام ويقلل من ثقة الجمهور بها.
• تحديات جمة تواجه الصحفيين:
كشفت الدراسة عن التحديات الكبيرة والعراقيل المتعددة التي يواجهها الصحفيون في سوريا، بما في ذلك القيود المشددة على الحريات الإعلامية، والرقابة القمعية، والانتهاكات الجسيمة التي تطال سلامتهم الجسدية والنفسية، وانتشار التضليل الإعلامي المضلل، وغياب مؤسسات تنظيمية مستقلة وفعالة تدافع عن حقوقهم وتحمي استقلاليتهم.
أهمية مضاعفة في مواجهة خطاب الكراهية والتحريض الطائفي
تكتسب هذه الدراسة أهمية استثنائية ومضاعفة في ظل الانتشار المقلق والمتسارع لخطاب الكراهية والتحريض الطائفي في المجتمع السوري. وتؤكد الدراسة بشكل قاطع أن الصحافة الأخلاقية، بمعاييرها المهنية الرفيعة والتزامها الراسخ بالمسؤولية، تمثل أداة حيوية وفعالة لمواجهة هذه الظاهرة الخطيرة والمدمرة، وتعزيز التماسك المجتمعي الهش، وحماية حقوق جميع الأفراد والجماعات، دون تمييز أو استثناء.
وفي هذا السياق الحيوي، أكدت مزن مرّشد، رئيسة رابطة الصحفيين السوريين، على ما يلي: “تأتي هذه الدراسة في منعطف حرج، حيث يواجه الصحفيون السوريون تحديات غير مسبوقة ومتشابكة، ليس فقط على صعيد الحريات والانتهاكات المباشرة، بل أيضًا في مواجهة التصاعد الخطير لخطاب الكراهية والتحريض الطائفي الذي يهدد النسيج المجتمعي الفريد في سوريا. ونحن نأمل بكل إخلاص أن تكون هذه الدراسة بمثابة خريطة طريق واضحة المعالم لإصلاح البيئة القانونية والإعلامية المتردية في سوريا، وتعزيز صحافة حرة ومسؤولة، وقادرة على التصدي لهذه التحديات الجسيمة بمهنية وموضوعية والتزام أخلاقي لا يتزعزع. وأشارت مرشد إلى أن فريق عمل الدراسة بذل جهودًا مضنية في سبيل جمع بيانات دقيقة وشاملة من خلال الاستبيانات المعمقة والمنتديات الحوارية المثمرة، ونحن على ثقة تامة بأن نتائج الدراسة ستساهم في إحداث تغيير إيجابي وملموس في واقع الإعلام السوري”.
وبدوره، صرح يدن الدراجي، المدير التنفيذي لرابطة الصحفيين السوريين، قائلاً: “تمثل هذه الدراسة خطوة بالغة الأهمية في جهودنا المتواصلة لدعم الصحفيين السوريين وتمكينهم من ممارسة عملهم النبيل بحرية واستقلالية ومهنية عالية. إننا نسعى جاهدين، من خلال هذه المبادرة البحثية الرائدة وغيرها من الأنشطة والبرامج، إلى خلق بيئة إعلامية صحية وإيجابية، تمكن الصحافة من القيام بدورها الحيوي في مساءلة السلطة، وكشف الحقائق للجمهور، والمساهمة الفعالة في بناء مجتمع أكثر عدلاً وتسامحًا وانفتاحًا. لافتا إلى أعضاء الرابطة يؤمنون إيمانًا راسخًا بأن الصحافة الأخلاقية هي حجر الزاوية في أي عملية إصلاح شاملة في سوريا، وأداة لا غنى عنها في مواجهة التطرف والانقسام والكراهية.
ومن جانبه، أشار إبراهيم حسين، مدير مركز الحريات الصحفية، إلى أن المركز طور عمله بشكل ملحوظ خلال ثلاثة عشر عامًا من تجربة الرابطة، من مجرد توثيق الانتهاكات إلى وضع حلول عملية وفعالة لمعالجة الأسباب الجذرية والعوامل المؤثرة التي تقف وراء الانتهاكات المتكررة التي تهدد الصحفيين وتقوض عملهم، ومحاولة الحد من هذه الانتهاكات في ظل مرحلة التحرير وبناء الدولة التي تتطلع إليها سوريا بعد سقوط نظام الاستبداد. وشدد حسين على أن الدراسة توصي بضرورة ملحة لإصلاح شامل وعاجل للإطار القانوني والتنظيمي للعمل الإعلامي في سوريا، وتوحيد القوانين المتعددة والمتضاربة، وضمان توافقها التام مع المعايير الدولية لحرية التعبير وحقوق الإنسان الأساسية. إضافة إلى ذلك، أكد حسين على أهمية تعزيز التعليم والتدريب المتخصص في مجال الصحافة الأخلاقية، وتوفير برامج تدريبية متعمقة وشاملة لتعزيز الوعي بأخلاقيات المهنة وتطوير المهارات اللازمة للتعامل الفعال مع التحديات المعاصرة، بما في ذلك كيفية تغطية النزاعات والأزمات بشكل مسؤول وحساس.
وفي السياق ذاته، شددت الدراسة على ضرورة تطوير آليات فعالة للتنسيق والتعاون بين النقابات المهنية ووزارات الإعلام والعمل والعدل والداخلية، بهدف توفير حماية فعالة للصحفيين وتعزيز بيئة العمل الإعلامي، وضمان توفير بيئة آمنة وداعمة للعمل الصحفي الحر والمسؤول، وحماية الصحفيين من جميع أشكال العنف والتهديد والاعتقال التعسفي والمضايقة القضائية. كما دعت الدراسة بشكل قاطع إلى تأسيس هيئات مستقلة وذات صلاحيات واسعة لتنظيم الإعلام ومراقبته والإشراف عليه، وضمان التزام جميع وسائل الإعلام بالمعايير الأخلاقية المهنية الرفيعة، بما في ذلك مكافحة خطاب الكراهية والتضليل الإعلامي بجميع أشكاله وصوره.
من جانبه، لفت محمد الصطوف، مدير وحدة الرصد والتوثيق بالرابطة، الانتباه إلى أن نتائج الدراسة الميدانية أظهرت بوضوح أن التضليل الإعلامي الممنهج هو أحد أبرز المشكلات والتحديات التي تواجه الصحافة في سوريا، ويشكل أرضًا خصبة لانتشار خطاب الكراهية والتحريض الطائفي. وشدد الصطوف على أنه يجب علينا العمل بشكل حثيث ومتواصل على تعزيز آليات التحقق من الحقائق ومكافحة الأخبار الكاذبة والمضللة، وتطوير آليات فعالة لرصد خطاب الكراهية والإبلاغ الفوري عنه، بهدف حماية الجمهور من التضليل وضمان مصداقية وسائل الإعلام. كما أشار الصطوف إلى الأهمية الحاسمة لتعزيز الحق في الوصول إلى المعلومات، وضمان حق الجمهور في الحصول على معلومات دقيقة وموثوقة من مصادرها المتنوعة، وتمكين وسائل الإعلام من الوصول إلى المصادر الرسمية وغير الرسمية للمعلومات بسهولة ويسر.
وفي الختام، أشار الصطوف إلى الأهمية البالغة لدعم وسائل الإعلام المستقلة وتعزيز دورها الحيوي في خدمة المجتمع، والالتزام الصارم بالمسؤولية الاجتماعية في نقل الأخبار والمعلومات، والابتعاد عن كل ما يثير الفرقة والكراهية والانقسام في المجتمع.
خاتمة: رؤية واضحة وطموحة لمستقبل الإعلام في سوريا
تختتم الدراسة بتأكيد قاطع على الأهمية المحورية للصحافة الأخلاقية في بناء مجتمع ديمقراطي ومسؤول، وفي مواجهة التحديات الجسيمة التي تعيق التماسك المجتمعي في سوريا. وتعرب رابطة الصحفيين السوريين عن أملها العميق في أن تكون هذه الدراسة مرجعًا قيمًا وموثوقًا للصحفيين والباحثين وصناع القرار والمنظمات الدولية في جهودهم المشتركة والرامية إلى تطوير قطاع الإعلام في سوريا، وتعزيز دوره الفعال في بناء مستقبل أفضل وأكثر إشراقًا للبلاد.