منذ بدايات الصحافة السورية في أواخر القرن التاسع عشر، لم تكن حرية التعبير يوماً مسألة مضمونة أو مكفولة بالقانون، بل كانت دوماً محكومة بسقفٍ تفرضه السلطة السياسية. فكل نظامٍ تعاقب على الحكم في سوريا صاغ قوانين الإعلام بما يخدم رؤيته، لتتحول التشريعات من أدوات لتنظيم المهنة إلى منظومةٍ مُحكمة لإدارة الرقابة وتقييد الكلمة.
هذا ما خلص إليه البحث الصادر مؤخراً عن رابطة الصحفيين السوريين تحت عنوان “الصحافة الأخلاقية والقوانين الناظمة لها في سوريا”، الذي قدّم قراءة نقدية معمّقة في المنظومة القانونية الحاكمة للإعلام، مبيناً كيف تحولت النصوص إلى أداة لإدامة السيطرة السياسية والأمنية بدل أن تكون ضامناً للحرية والمسؤولية.

يُظهر البحث أن البنية القانونية للإعلام في سوريا كانت على الدوام انعكاساً لميزان القوى السياسية، فمن قانون المطبوعات العثماني لعام 1865 الذي أرسى أولى أشكال الرقابة، مروراً بتشريعات الانتداب الفرنسي التي كرّست الوصاية الإدارية على الصحف، وصولاً إلى مرسوم حزب البعث عام 1963 الذي أغلق الصحف الخاصة وصادر المطابع، تمّ تأميم المجال الإعلامي بالكامل وتحويله إلى منبرٍ للدعاية الرسمية.
ومع استلام بشار الأسد السلطة عام 2000، شهدت البلاد وعوداً بانفتاح إعلامي، تُوّجت بإصدار قانون الإعلام رقم 108 لعام 2011، في خضمّ موجة الإصلاحات الشكلية التي رافقت بدايات الانتفاضة السورية، لكن سرعان ما تبيّن أن القانون الجديد أعاد إنتاج القيود القديمة في صياغة حديثة، إذ احتفظت السلطة التنفيذية بقبضتها على الإعلام من خلال مصطلحات فضفاضة مثل “المساس بالوحدة الوطنية” و“هيبة الدولة”، وهي عبارات تفتقر إلى أي تحديد قانوني وتُستخدم لتبرير قمع الرأي المخالف.

ورغم أن القانون رقم 108 تضمّن مواداً تتحدث عن “استقلال الإعلام” و“حقّ الجمهور في المعرفة”، إلا أنه ربط كل أنشطة النشر والترخيص بموافقة مجلس الوزراء، مانحاً السلطة التنفيذية حقّ التدخل في التعيين والتمويل والمضمون. أما المجلس الوطني للإعلام، الذي كان من المفترض أن يكون هيئة مستقلة، فقد مُنح صلاحيات شكلية، ثم جرى إلغاؤه عام 2016 حين نُقلت صلاحياته إلى وزارة الإعلام، لتعود الرقابة من البوابة الخلفية وبغطاء قانوني جديد.
كما بيّنت الدراسة أن هذا القانون خلق بيئة طاردة للإعلام المستقل، حيث أصبح أي صحفي يعمل خارج المؤسسات الرسمية أو غير المرخّصة عرضةً للملاحقة القانونية، وتحولت عبارة “حماية الأمن الوطني” إلى سلاحٍ قانوني جاهز لإسكات الأصوات النقدية وملاحقة من يكشف الفساد أو يتناول قضايا عامة خارج السردية الرسمية.

مع تطور الفضاء الرقمي وتزايد التأثير الاجتماعي للإعلام البديل، وسّعت السلطة نطاق الرقابة لتشمل الإنترنت ومنصات التواصل، فجاء قانون الجرائم المعلوماتية رقم 20 لعام 2022 ليُعيد تعريف “الجريمة الإعلامية” بأسلوب أكثر اتساعاً وغموضاً.
فقد نصّ القانون على معاقبة كل من “ينشر أخباراً كاذبة تمسّ هيبة الدولة أو مكانتها”، دون تحديد معايير موضوعية لما يُعدّ “كاذباً” أو “ماسّاً بالهيبة”. وقد وثّقت منظمات حقوقية عشرات حالات الاعتقال والملاحقة على خلفية منشورات شخصية أو آراء نقدية، ما جعل القانون الجديد استمراراً للنهج القديم في ثوبٍ تكنولوجي معاصر.

لم تتوقف أزمة حرية الإعلام عند حدود مناطق سيطرة النظام، فالدراسة رصدت أيضاً واقع التشريعات الإعلامية في مناطق الإدارة الذاتية شمال وشرق سوريا، حيث صدرت قوانين إعلامية أعوام 2015 و2021 منحت “دائرة الإعلام” صلاحيات واسعة في منح التراخيص وسحبها، وفرض الغرامات على وسائل الإعلام، بل ومطالبة الصحفيين بكشف مصادرهم، في مخالفةٍ واضحة لمبدأ حماية المصادر الصحفية.
أما في شمال غرب سوريا، لم تكن هناك بنية قانونية واضحة، فقد بقي الإعلام رهينةً لسلطات الأمر الواقع، يخضع تارةً لتوجيهات الفصائل وتارةً أخرى لقرارات محلية متغيرة، ما خلق بيئة من الرقابة غير الرسمية والضغوط السياسية التي لا تقلّ وطأةً عن القيود القانونية.
هكذا تكشف الدراسة أن الانقسام الجغرافي في سوريا رافقه تفكك قانوني جعل من حرية الإعلام مسألة نسبية، تُحدَّد وفق موازين القوى لا وفق القيم القانونية والمعايير الدولية.

تؤكد الدراسة أن القوانين السورية، بمختلف مناطق السيطرة، تتعارض مع المادة 19 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والمادة 19 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، اللتين تضمنان حق الإنسان في حرية الرأي والتعبير وتلقي المعلومات دون تدخل.
فالمعايير الدولية تشترط أن تكون أي قيود على التعبير ضرورية ومحددة وواضحة ومتناسبة مع الهدف المشروع، بينما تقوم التشريعات السورية على مصطلحات مبهمة تُتيح للسلطات تفسيرها بما يخدم ضبط المجال العام وإسكات النقد.


خلصت رابطة الصحفيين السوريين في دراستها إلى ضرورة صياغة قانون إعلام موحّد لسوريا المستقبل، يضمن استقلالية الإعلام وحق الجمهور في المعرفة، ويؤسس لبيئة قانونية تحمي الصحفيين بدلاً من معاقبتهم.
ويجب أن يقوم هذا القانون على:

  • فصل السلطات التنفيذية عن الهيئات الناظمة للإعلام، وضمان استقلالها التام.
  • إلغاء النصوص التي تُجرّم الرأي أو تستخدم عبارات مطاطة مثل “هيبة الدولة” و“وهن عزيمة الأمة”.
  • مواءمة القوانين السورية مع المواثيق الدولية المتعلقة بحرية التعبير.
  • تعزيز مبدأ الشفافية والمساءلة وحقّ الوصول إلى المعلومات العامة.

إن استعادة حرية الإعلام في سوريا ليست مسألة شكلية أو ترفاً قانونياً، بل هي ركيزة أساسية لأي تحول ديمقراطي حقيقي، فالقوانين التي صيغت لعقود لتكميم الأفواه يجب أن تُستبدل بمنظومة جديدة تحمي الكلمة لا تُعاقبها، وتُعيد للصحافة دورها الطبيعي كسلطة رقابية مستقلة، تعبّر عن المجتمع لا عن الحاكم.
ولعلّ هذه الدراسة الصادرة عن رابطة الصحفيين السوريين تمثّل خطوة أولى على طريقٍ طويل نحو إعلام حر ومسؤول، يكون ركيزة لبناء دولة القانون والعدالة، لا مرآةً لسلطة الخوف والرقابة.