استناداً إلى دراسة رابطة الصحفيين السوريين حول الصحافة الأخلاقية والقوانين الناظمة لها (2025)
في بلدٍ مزّقته الحرب والانقسام وأغرقته وما تزال الروايات المتناقضة، تبدو الصحافة الأخلاقية في سوريا اليوم في مواجهة مفتوحة مع أخطر خصمين للحقيقة: خطاب الكراهية والتضليل الإعلامي.
هذا ما خلصت إليه دراسة رابطة الصحفيين السوريين لعام 2025، التي تناولت واقع الصحافة الأخلاقية في سوريا وعلاقتها بالإطار القانوني الناظم للإعلام، لتكشف عن صورة مركّبة لمشهد إعلامي مضطرب، ما زال بعيداً عن معايير المهنية والإنصاف، ويعاني من فراغ تشريعي وغياب ضوابط مستقلة تحمي الحقيقة من التسييس والتشويه.
الصحافة.. فوضى بعد احتكار
منذ عقود، احتكر نظام الأسد الإعلام الرسمي واستخدمه أداةً لتثبيت روايته السياسية وتجميل صورته أمام الداخل والخارج. كان الإعلام آنذاك صوتاً واحداً يخاطب جمهوراً لا يُسمح له بالسؤال أو الاعتراض.
لكن مع اندلاع الثورة عام 2011، انهار ذلك الاحتكار، وظهرت وسائل إعلام مستقلة ومعارضة تسعى لتوثيق الجرائم والانتهاكات وكشف ما كان محظوراً الحديث عنه. غير أن هذا الانفتاح السريع لم يُرافقه تأسيس بنية مهنية أو مرجعيات أخلاقية تضبط الأداء الإعلامي، فدخلت البلاد مرحلة جديدة من الفوضى الإعلامية، حيث تداخلت الحقيقة مع الرأي، والمعلومة مع الدعاية، والمهنية مع الانتماء السياسي أو الجهوي.
وبدلاً من أن تكون الصحافة مساحة للتنوير والمساءلة، تحوّلت في كثير من الحالات إلى منبر تعبئة وتحريض، تسهم – عن قصد أو دون قصد – في إعادة إنتاج الانقسامات المجتمعية والسياسية.
خطاب الكراهية.. التحدي الأخطر
تُظهر الدراسة أن خطاب الكراهية لم يكن طارئاً على المشهد السوري، بل هو امتداد طبيعي لثقافة إعلامية رسمية سابقة اعتادت التمييز والتحريض ضد المختلفين. ومع تفجّر الصراع، انتقل هذا الخطاب من إعلام السلطة إلى مساحات أوسع، متسللاً إلى المنصات البديلة ووسائل الإعلام المعارضة، ليتحوّل إلى ظاهرة مجتمعية متجذّرة.
وبحسب الاستبيان الذي أجرته رابطة الصحفيين السوريين وشمل 140 صحفية وصحفياً من مختلف المناطق السورية، اعتبر غالبية المشاركين أن انتشار خطاب الكراهية والتضليل الإعلامي هو التحدي الأخطر الذي يواجه الإعلام السوري.
وأشار البحث إلى أن التلفزيون الرسمي كان من أكثر المنابر استخداماً للغة الكراهية ضد المعارضين، في حين لم تسلم بعض وسائل الإعلام المعارضة من الوقوع في الخطأ ذاته، عبر تعميم الاتهامات وشيطنة كل من له صلة بالطرف الآخر، ما حول الإعلام من وسيلة للتواصل إلى أداة لإدامة الكراهية وتعميق الشرخ المجتمعي.
لقد ساهم غياب التشريعات الرادعة وضعف الوعي المهني في تطبيع التحريض داخل الخطاب الإعلامي السوري، حتى بات التناول الإعلامي لقضايا الضحايا والمكونات الدينية أو الإثنية محكوماً بالانحياز والعاطفة، لا بمعايير العدالة والإنسانية.
ومن هنا، تصبح الصحافة الأخلاقية ضرورة لا مجرد خيار، لأنها السبيل الوحيد لإنقاذ المهنة من الانزلاق في مستنقع التوظيف السياسي والتحريض.
التحديات.. أمنية ومهنية
لا تقف معاناة الصحفيين السوريين عند حدود الخطاب الأخلاقي، بل تمتد إلى مخاطر وجودية تهدد حياتهم وحريتهم.
فبحسب نتائج الاستبيان، رأى 62.9% من الصحفيين المشاركين أن التهديدات الأمنية – من اعتقال وتعذيب واستهداف مباشر – تشكّل العقبة الأكبر أمام ممارسة المهنة. كما أظهرت النتائج أن دور الإعلام في تعزيز الوعي المجتمعي والدفاع عن حقوق الإنسان ما يزال محدوداً، فيما يظل تأثيره في مكافحة الفساد وتعزيز الديمقراطية ضعيفاً للغاية.
ووفق بيانات المركز السوري للحريات الصحفية التابع لرابطة الصحفيين السوريين، تم توثيق أكثر من 1500 انتهاك ضد الإعلاميين منذ عام 2011، بينها 478 حالة قتل، معظمها على يد قوات نظام الأسد، مما يجعل سوريا واحدة من أخطر البيئات في العالم لممارسة العمل الصحفي.
هذه الأرقام لا تعكس فقط حجم الخطر، بل تكشف أيضاً هشاشة البنية القانونية التي يفترض أن تحمي الصحفيين، في ظل غياب تشريعات تضمن حرية التعبير وتجرّم الاعتداء على الإعلاميين.
نحو صحافة تحترم الإنسان
رغم كل هذا الواقع القاسي، لا تخلو الصورة من بريق أمل، فالدراسة تشير إلى جهود متزايدة تبذلها مؤسسات سورية مستقلة – وفي مقدمتها رابطة الصحفيين السوريين – لتعزيز ثقافة مهنية جديدة. فقد أطلقت الرابطة «ميثاق شرف للإعلاميين السوريين» الذي يرسّخ قيم النزاهة والموضوعية واحترام الكرامة الإنسانية، كما دعمت برامج تدريبية متخصصة في الصحافة الأخلاقية ومكافحة خطاب الكراهية.
ورغم محدودية الموارد وصعوبة الظروف، تمثل هذه المبادرات خطوة تأسيسية نحو بناء إعلام مسؤول، يسعى لتصحيح العلاقة بين الصحافة والمجتمع، ويضع الإنسان – لا السلطة أو الأيديولوجيا – في مركز اهتمامه.
خاتمة
إن الصحافة الأخلاقية ليست ترفاً مهنياً أو شعاراً مثالياً، بل هي حجر الأساس لأي إعلام حر ومسؤول، وهي الضمانة الوحيدة لاستعادة الثقة بين الجمهور ووسائل الإعلام.
تُظهر نتائج دراسة رابطة الصحفيين السوريين أن الطريق نحو إعلام مهني وإنساني يمرّ عبر مواجهة خطاب الكراهية، وتحسين البيئة القانونية، وتمكين الصحفيين من العمل بأمان واستقلالية.
ففي زمن الانقسام والمعلومة المضللة، تصبح الصحافة الأخلاقية فعل مقاومة، وتغدو الكلمة الصادقة السلاح الأنجع في وجه الكراهية والتضليل، ومن خلالها فقط يمكن استعادة دور الإعلام كقوة للسلام والعدالة، لا كأداة للصراع والانقسام.







